لطالما ساد اﻹعتقاد منذ بضعة عقود أن المنظومات الصحية في بلدان العالم المتقدم و في البلدان الصاعدة و تلك ذات الناتج المحلي الخام المتوسط كالمغرب، أصبحت معنية بتدبير انتشار اﻷمراض المزمنة غير المنقولة ( داء السكري، أمراض القلب و الشرايين، …) و هو ما يصطلح عليه باﻹنتقال اﻹيبدميولوجي، مقرونا باﻹنتقال الديمغرافي مع ارتفاع معدل أمل الحياة عند الولادة (74 سنة في المغرب).
منذ 2002، مع ظهور وباء SARS -COV -1, ثم مع ظهور وباء متلازمة الشرق الأوسط التنفسية MERS سنة 2012 و بعدها انتشار إيبولا و زيكا، أصبح من الضروري تحيين السياسات الصحية بحيث تأخذ بعين الاعتبار تدبير اﻷزمات الصحية المرتبطة بالجوائح باعتبارها أوبئة سهلة الإنتشار عبر العالم و بشكل عابر للحدود، ما يستوجب حكامة صحية عالمية على درجة كبيرة من التنسيق و التعاون و تبادل المعلومات بين الدول في إطار التضامن العالمي.
على دول العالم و من ضمنها المغرب، أن تقطع مع بعض المسلمات التي أثبت الواقع عدم استجابتها لمتطلبات المرحلة. أولى هذه المسلمات تتمثل في اعتبار تمويل المنظومة الصحية عبئا على المالية العمومية مع ما يستتبع ذلك من تخلي الدولة عن مسؤولياتها لفائدة القطاع الخاص في تماهي مع النموذج النيوليبرالي الذي يحجم المرفق العمومي و أدواره.
سيكون من المفيد، بل من الضروري تعزيز الخدمة العمومية في المجال الصحي بتقوية اﻹستثمار العمومي في البنيات التحتية، التجهيزات و الموارد البشرية، مع اﻹقتناع أن استثمارا كهذا هو استثمار في اﻹنسان و بالتالي فهو استثمار منتج على المديين المتوسط و البعيد.
بطبيعة الحال، ينبغي بناء شراكات فعالة بين القطاعين العام والخاص على أساس تكامل اﻷدوار داخل المنظومة الصحية الوطنية بكامل حلقاتها و مكوناتها.
تطوير المنظومة الصحية ليس ترفا، بل هو ضرورة و صمام أمان للحفاظ على اﻹستقرار الوطني و زرع روح الثقة بين المواطن و الدولة باعتبارها ضامنة للحقوق اﻷساسية و على رأسها الحق في الصحة.
على العموم، لا يمكن إلا أن نسجل بكثير من اﻹرتياح المجهودات اﻹستثنائية التي تتخذها السلطات العمومية بمختلف أذرعها على المستويين الوطني و المحلي لتدبير ناجع للأزمة المتعلقة بجائحة كوفيد 19. لقد تم التفاعل بشكل مميز مع اﻷزمة بتعبئة وطنية شاملة للموارد البشرية و المادية المتاحة لمواجهة الوباء و تبعاته اﻹقتصادية و اﻹجتماعية، على الرغم من بعض النقائص و اﻹرتباك، و هذا أمر طبيعي في مثل هذه الظروف اﻹستثنائية.
و أخيرا، لا بد من اﻹشادة باﻷطر الصحية من أطباء و صيادلة و ممرضين الذين يؤدون واجبهم في ظروف صعبة و في ظل مخاطر كبيرة.
أملي أن لا يترك هؤلاء المحاربون في ميدان المعركة بدون أدنى وسائل الوقاية و الحماية من اﻷخطار التي تهددهم ﻷننا في حاجة ماسة إلى كل فرد من هذه الكتيبة التي تخوض حربا بلا هوادة لحماية المواطنين الملتزمين بالبقاء في منازلهم.
لا يتطلب اﻷمر الشيء الكثير : أقنعة واقية، مواد التعقيم و بعضا من التحفيز المعنوي و العرفان لرفع المعنويات.
سنتغلب بتظافر الجهود على هذا الوباء إن شاء الله. و لنأمل أن يتم ذلك بأقل قدر ممكن من الخسائر.
و حين ينتهي كل هذا، سيكون على بلدنا استخلاص الدروس و العبر من أجل إعادة ترتيب اﻷولويات في خضم اقتراح نموذج تنموي جديد يكون اﻹنسان في صلب اهتمام السياسات العمومية مع رد اﻹعتبار للصحة و المرفق الصحي العمومي و النهوض به في المرحلة القادمة.