قتلوا جمال خاشقجي، ولكنّ قضيته أفلتت من أيدي الفاعلين، وظلت عصيّةً أيضًا على الدول التي تعمل على تسويتها بهذا الثمن أو ذاك الذي على القيادة السعوديّة دفعه، بعد أن ضُبطت بالجرم المشهود. يمكن للقيادات السياسيّة اتخاذ خطواتٍ، ولكن لا يمكنها التحكّم بالنتائج. ينطبق ذلك على قرار ارتكاب الجريمة النكراء، مثلما ينطبق على من سيحاولون التوصّل إلى تسويةٍ ما تسمح باستمرار العلاقات السعودية الأميركية والسعودية التركية. فلم تقع حربٌ بسبب مقتل فرد منذ اغتيال ولي عهد النمسا في عام 1914، ولكن سورية اضطرّت إلى سحب قواتها من لبنان بعد مقتل رفيق الحريري، وهي بالتأكيد لم تخطط لذلك.
يبدو أن الثمن الذي سيدفعه محمد بن سلمان سيكون أكثر فداحة. لقد أصبح ملف جمال خاشقجي ملك رأيٍ عامٍ واسعٍ في الغرب والشرق، فجريمة قتله فتحت فوهة بركان تدفّقت منها آبارٌ من مشاعر الغضب والإحباط، من الحرب على اليمن واستخفافها بمصير مدنييه، مرورًا باعتقال ناشطاتٍ ذنبُهن أنّهن طالبن بحق المرأة في قيادة السيارة قبل أن يخطر الأمر في بال ولي العهد السعودي الذي لا يسمح غرورُه أن يسبقه أحدٌ إلى هذا الاختراع العظيم، واعتقال إصلاحيين سعوديين لا يبدأ الإصلاح عندهم بالسماح بالغناء والرقص (على تأييدنا إتاحتهما وإتاحة غيرهما من أوجه النشاط الإنساني)؛ هذا فضلا عن مناصبة قيادة المملكة العربية السعودية وزميلتها الإماراتية العداء، بالقول والفعل، لأي تغييرٍ ديمقراطي أو لبرلة سياسية في المنطقة، ووسمهما بالإرهاب كل من لا يعجبهما، والوشاية عليه في الغرب، باعتبار الإرهاب كلمة سحرية، والغرب “ولي الأمر” الذي يحب الوشاة، ويمكن إبهاره بالجمع بين الوشاية وحب إسرائيل ولوم الفلسطينيين وتحميلهم مسؤولية مأساتهم، وإظهار الإعجاب بالتكنولوجيا الرقمية، والتظاهر بالبساطة بعد البطر، ونبرة رجل الأعمال الذي يريد أن تُنجز الأمور ولا وقت لديه للعواطف والأفكار، مع إضافة لكنةٍ أميركيةٍ في نهاية الجملة المكسّرة التي تتخللها كليشيهات رائجة.
يعلم الجميع أنّ انتظار الأدلة على الجريمة، وعلى علاقة القيادة السعودية بمرتكبي الفعلة الرسميين الذين حضروا بطائراتٍ خاصّة، وبعضهم من مرافقي صاحب القرار السعودي، والأسئلة الأخرى المتعلقة بالتسجيلات وغيرها، بدءًا من شائعة ساعة آبل ونهاية بمنشار العظام، هي من باب لزوم ما لا يلزم، أو لرفع العتب والتظاهر بأن المتكلم الرسمي يتوخّى الدقة، ويتحرّى الحقيقة، مع أنه يعرف أن الجريمة في القنصلية مستحيلة التصوّر فضلا عن التنفيذ، بدون أمر من صاحب القرار. وتبقى التفاصيل مفيدة للمسلسل الإعلامي الدرامي الذي يشغل الرأي العام بحق، وربما للفيلم الذي سيصوَّر في المستقبل ربما بعنوان “قتل في القنصلية”، عن قصّة النهاية المروعة للصحافي السعودي المنشقّ الذي كان يومًا مقرّبًا من الأسرة الحاكمة.
إنّ ما يُفترض أن يشغلنا لا يتعلق بمسؤوليّة محمد بن سلمان عن الفعل المشين، فهذه ثابتة، ولا تغسل يديه من دم جمال خاشقجي مياهُ الخليج، ولا أي اتفاقٍ وأيّ روايةٍ يقترحها عليه ترامب ومساعدوه. إن ما ينبغي أن يشغلنا هو السؤال: أي نوعٍ من القيادات تتخذ مثل هذه القرارات الإجرامية والحمقاء في آنٍ معًا؟
سبق أن تساءل كثيرون عن مبرّر قتل جمال خاشقجي في القنصلية، مع أن ارتكاب الفعلة ممكن في أي شارع، بحيث يُفتح ملفٌ ضدّ مجهول. لماذا في القنصلية؟ ربما أرادوا خطفه فعلًا، أو هو مركّب الغرور والحماقة (والغرور على كل حال نوع من الحماقة أو الغباء)، والضغينة التي تعتمل في النفوس، والمختلطة بالغضب على من سبّبها، والناجم عن تطاوله على الرغم من حقارة منزلته. فمن هو (على وزن “من أنتم؟”)؟ ليس رجل أعمال كبيراً، ولا مسؤولا أو ابن مسؤول ليُسجن في فندق ريتز. ثمّة غرورٌ لا تبرّره إنجازاتٌ فكريّةٌ أو علميّةٌ أو اقتصاديّةٌ أو عسكريّةٌ يساور بعض الجهّال من أبناء العائلات الغنية أو الحاكمة مثل نوبات الجنون. ثمّة انحلالٌ ناجمٌ عن الدلال والبطر والنعم غير المستحقة يحقّر من شأن كل من ليس قويا وصاحب سلطة ومال وجاه بمنطق الأنساب الذي يسخّفه أي متنوّر في الشرق والغرب، وبات يعتبر علامة تخلّف، إلا في نظر من ينافح به بكل جدّيةٍ في عالم تويتر الافتراضي، فضاء انتصاراته الوحيد.
أمّا أن يتجرّأ صاحب المكانة الدنيا فهذا فعلًا تجاوزٌ لكل الحدود، فهو يصبح معارضًا “ناكرًا للنعمة”، وكأنهم يُنعمون على من يعمل من البشر، وكأنهم كسبوا ما يُنعِمون به فعلا بعرق جبينهم. إنّ أقصى ما يمكن أن يصل إليه شخصٌ بلا حسب ولا نسب، بهذا المنطق السخيف، هو أن يكون خادمًا أو مستشارًا عند هؤلاء. وعندما يقتلونه، فمصيرُه مثل مصير العبد الذي يقتله صاحبُه، فمن سيلاحظ مقتل عبد ويهتم لمصيره. فمن هو فلان؟ ثمّ يُصدمون أنّ موت فلان أشغل الناس في العالم الحقيقي، لا عالم ذبابهم الإلكتروني على “تويتر”، ولا عالمهم الحقيقي الذي أصبح افتراضيا في عصرنا. يُفاجأون بأن “واشنطن بوست” جعلت مقتله موضوعًا لصفحتها الأولى طوال أسبوع، وتحوّل إلى قضيّة داخليّة أميركيّة تقيّد ترامب نفسه، ليس فقط من طرف خصومه، بل من حزبه نفسه، إذ يبحث ممثّلوه عن وسيلةٍ للتميّز عن رئيسهم، ولو أخلاقيًّا. إنهم بذلك يصرّحون بأنهم ليسوا جميعًا تجار عقارات، ومعاييرُهم لا تقتصر على قدرة المرء على اقتناص أفضل ثمنٍ عند بيع أسوأ بضاعة، ولا شراء أجود سلعةٍ بأبخس ثمن؛ وأنّ ثمّة معايير أخرى، إضافة إلى منطق السوق، وليس بالضرورة أن تكون الأخلاق، فقد تكون الهيبة أو السمعة أو الصورة في المرآة، وغير ذلك.
إننا نتحدّث هنا عن شخصٍ بلغ به مركّب الغرور والضغينة، المبيّن أعلاه، حدّ التوهم أنّ بإمكانه حسم الحرب على اليمن خلال أسبوعين، لمجرّد أنّ سكانه يمنيون. وإذا لم تُحسم الحرب فلا بأس من هدم اليمن، ولم لا؟ ولا تخطر بباله تسويةٌ سياسيّةٌ من أي نوع، فمن هم اليمنيون ليصنع معهم تسويةً سياسيّة؟ وحكومة اليمن الشرعيّة يعترف بها ولا يحترمها. ويعتقل رئيس وزراء لبنان بعد أن دعاه للزيارة، وكأنه دعاه للتحقيق. فلمجرّد أنّه يدعمه ماليًّا، وأن الأخير عاش وأسرته في السعودية في مرحلةٍ ما، لا يمكن أن يتصوّر أنّ عليه احترامه كرئيس وزراء.
يُعطي هذا النوع من القيادة الأمان ويغدر من ائتمن. يُمنح جمال خاشقجي الأمان، حتى يدخل قنصليّة بلاده لتخليص معاملةٍ مدنيّة بسيطة، فيُحقّق معه قبل أن يُقتل. وتنتظره خطيبته خارج القنصلية ساعاتٍ طوالًا قبل أن تستغيث بالإعلام والرأي العام. هذا النوع من الغدر هو أيضًا تعبيرٌ عن عدم التزامٍ بالتقاليد والأعراف. فلدينا في هذه الحالة زعاماتٌ شابّةٌ ورثت الحكم الملكي، بسلطويّته ولادستوريّته، من دون قيمه وأعرافه وتقاليده، أي من دون كل ما جعله محتملًا على القيادات التقليديّة للمجتمع التي تتوسّط بينه وبين “رعاياه”. تمنّى الناس التحديث، واعتقدوا أن أي تحديثٍ يفيد السعودية، بما في ذلك تحديد الإملاء الديني على مظاهر حياة الناس اليومية، حتى لو بدأ بمركزة السلطة. ولكن مركزة السلطة لأغراض التحديث تشترط أن يُمسك بزمامها عاقلٌ حكيم.
عرف خاشقجي أنّه لا يُعامل كمواطن، لكنه توقّع على الأقل أن يُعامل كرعيّةٍ، فيأمن الأذى من زاوية طول العشرة، لكنّه نسي أنّ هؤلاء لا يعترفون بقيم كالعشرة واحترام العهود. وسبق أن اعتقلوا رئيس وزراء لم يُنقذه إلا رئيس دولةٍ غربيّة عيناه زرقاوان، لدى القيادة ما يكفي من عقد النقص أمامه ليحترموا طلبه. هي عقد النقص نفسها التي تنقلب خُيلاء وتكبّرًا على شعبها والشعوب الشبيهة به. وكانت مشكلتهم الكبرى مع شخصٍ مثل باراك أوباما أنّه يمثل دولة كبرى تتملّكهم عقد نقص إزاءها، ولكنه أسود البشرة يعتبرون من مثله عبدًا في ثقافتهم. ويتعرّضون لحرج آخر مع مسؤولات نساء من دول غربيّة يضطرون للجلوس معهن لأنّهن يمثلن تلك الدول، ولكنهم في سريرتهم يحتقرونهن بوصفهن نساءً.
هذه القيادات الشابة غاضبةٌ على الإسلاميين، ليس لأنها علمانيةٌ تضع الإنسان في مركز الكون، فلا الإنسان ولا الله في مركز كونها، بل السلطة والثروة، ولا هي تفصل الدين عن السياسة. إنها غاضبة عليهم، لأنّهم نظّموا أحزابًا وحركات سياسيّة، وهذا غير متاحٍ لأحد، لا لهم، ولا للعلمانيين. وهم غاضبون على المزاج الإسلامي بشكلٍ عام، إذ يعتبرونه عائقًا أمام ممارسة حياةٍ يستحقّونها، والمقصود هو الحياة الاستهلاكية والتمتّع هم وأترابهم من الطبقة نفسها. وهم يبيعون للغرب إصلاحاتٍ واعتقالاتٍ تتيح لهم نمط حياةٍ كهذا على أنّها إصلاحاتٌ اجتماعية ودينية. والحقيقة أن الأمر يتعلق بانفتاح طبقاتٍ معيّنةٍ في المملكة على عادات استهلاكية، كما يتعلّق بتحويل المؤسّسة الدينيّة ورجال الدين إلى متلقّين لتوجيهاتهم وناقلين لها إلى جمهورٍ ينبغي أن يتلقى ما يُنقل إليه من مدائح الحكام، ولعن معارضيهم، وانشغالٍ بالخرافات والشعوذة. ليسوا ليبراليين، لا اقتصاديا ولا سياسيا، فلا علاقة لليبرالية بالسيطرة على مقدّرات البلاد وتوزيعها وكأنهم ينعمون بها على الغير، وليس هدفهم أبدًا انفتاحًا بمعنى الحريات، بما يتجاوز نمط العيش الذي تستحق الإصلاحات بشأنه التأييد من دون شك، ولا فتح المجال العام أمام المواطنين، ولا احترام حقوق الناس المدنيّة وحرياتهم، بما في ذلك حق التعبير عن الرأي في الشأنين، الديني والسياسي، وغيره. لقد أيّد كل عاقل إصلاحات بن سلمان باعتبارها أمورًا بديهية في عصرنا، ولكنها ترافقت مع مركزة السلطة، وتشديد القبضة الأمنية على المجتمع، وعدم التسامح، ولا حتى الأهلي، مع أيّ رأيٍ مخالف، ومعاقبة من لا يؤيده حتى لو لم يعارضه، حتى بات مؤيدو النظام أشبه بشبّيحة النظام السوري الذين لا يعرفون لغةً أخرى غير الهتاف والشتم، الهتاف للأسياد ولاة الأمور، وشتم معارضيهم مفسدي الأمور.
هذا هو نوع القيادة الذي قرّر اغتيال خاشقجي في قنصلية بلاده في دولةٍ ذات سيادة هي تركيا، واعتقد أنّ الأمر طفيفٌ لا يستحق كل هذه الضجّة، وأنها على أي حال ستكون ضجةً عابرة، مثلما عَبر موضوع اعتقال الحريري، وربما التعرّض إليه بالضرب جسديًا كما يُقال، واعتقال النساء الذي لم تعترض عليه دولة سوى كندا، وكان أن تشاطروا عليها وأضحكوا العالم على أنفسهم، وهم يدافعون عن حقوق النساء والسكان الأصليين فيها.
ثمّة علاقة بين هذا التحلّل من الضوابط والأجواء التي يشيعها ترامب في العلاقات الدوليّة لناحية عدم اكتراث الدول العظمى لا بمعاناة البشر، ولا بقواعد التعامل بين الدول واحترام الاتفاقيات. وثمّة تسيّبٌ عربي باستسهال القمع ورفع سقفه وانتقام النظام من المواطن منذ الشعور بنشوة انتصار الثورة المضادة في انقلاب مصر، واستخدام النظام السوري عنفًا غير مسبوق ضد الشعب. ولكن يبدو أنّ قضيّة جمال خاشقجي وردّ الفعل عليها والتباري بإبداء التقزّز من الفعلة النكراء هي أيضا تعبيراتٌ عن ضيق الناس في الغرب والشرق بهذا كلّه. ثمّة ضيقٌ حقيقي، وثمّة غضبٌ عربيٌّ محتقنٌ تنبعث منه مؤشراتٌ في كل مناسبة.