لم تنجُ أية دولة في العالم من تداعيات تفشي جائحة كورونا، حيث تعمقت واشتدت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الى درجة جعلت العالم يبدو وكأنه عملاق ذو أرجل من طين. فبالرغم من التقدم المادي والتكنولوجي، ظهرت جل الدول بمظهر العاجز عن إيجاد حلول فعالة وعقلانية للحد من تأثيرات الوباء. فقد أضحت المجتمعات الإنسانية موضوع جملة من المخاطر التي تحذق ببنائها الداخلي وبالسلامة النفسية للأفراد، وهو ما يزيد من تعقد جميع التأويلات التي تنحو نحو إيجاد أجوبة مقنعة تتعلق أساسا بنتائج هذا الوباء وكيفية التعامل معها. كما تفاقمت الأمور بشكل متزايد في الدول غير المتقدمة، ذلك لكونها تعيش أصلا أزمة بنيوية متعلقة بتخلف سياساتها العمومية، ناهيك عن غياب الحل الديمقراطي كآلية لتسيير الشأن العام. إذ لم يساهم التراكم التاريخي لهذه الدول في مجالات بناء مؤسسات الدولة وبلورة السياسات التنموية، إلا في بروز محدودية قدراتها على مواجهة الانعكاسات السلبية لجائحة كورونا، وبالأخص تلك التي تهم الجوانب الاقتصادية والاجتماعية.
فالحديث عن هذا الأمر يجرنا إلى ملامسة كيفية التعامل مع أزمة “كورونا” بالمغرب، إذ بالرغم من بعض الإجراء ات الإيجابية، و القرارات التي اتخذتها الدولة في الأشهر الأولى بعد ظهور الوباء؛ و التي كان من أهمها إنشاء صندوق تدبير جائحة كورونا، غير أنه بعد رفع الحجر تم التعامل مع الجائحة بشكل ارتجالي تجسد أساسا في تبني قرارات كان لها أثر سلبي على كيفية الحد من انتشار وباء كورونا. و نشير هنا الى ذلك التخبط الذي صاحب إعلان حظر التنقل بين المدن أياما معدودة قبيل عيد الأضحى، ثم غموض المعايير المعتمدة في تصنيف المدن بين مناطق الدرجة 1 والدرجة2، بالإضافة إلى ضعف البنيات الصحية والتي أبانت عن عجز ملحوظ ومحدودية قدرتها الاستيعابية على استقبال المصابين بالوباء.
كشفت لنا جائحة كورونا بالمغرب مدى ضعف الرصيد التاريخي في بناء الدولة الاجتماعية و تدني مستوى احترافية الفاعلين السياسيين، إذ لم تساهم بعض قراراتهم إلا في تعميق أزمة “كورونا” وتزايد درجة فقدان المواطن الثقة في المؤسسات السياسية و العمومية، و معلوم أن حنكة الفاعل السياسي أو العمومي لا تظهر إلا في سياق الأزمات باعتبار السياسة في حد ذاتها آلية وفن لإدارة هذه الأزمات.
و يجب أن لا ننسى بأن بناء السياسة بالمغرب يرتكز على جملة من القيم الثقافية و التمثلات الاجتماعية التي تجد مصدرها في خزان تقليدي وطابع مخزني جعل من الفعل السياسي فعلا سلطويا ومخرجاته ارتجالية، لأن تغليب المقاربة الأمنية التقليدية لم يتماش مع ما تفرضه ظرفية الوباء التي تتطلب حلولا أكثر نجاعة تعتمد على ضرورة تجويد الخدمات التي تقدمها المرافق العمومية وبالأخص تلك المتعلقة بالقطاع الصحي. و نلاحظ بأن هذه المقاربة الأمنية أو المخزنية التقليدية تتمظهر لنا في طبيعة بعض الفاعلين الإداريين و السياسيين بجهات المملكة، حيث لا يتوفرون على المؤهلات و القدرات المهنية الكفيلة بضمان نجاح مهامهم في الظرفيات الاستثنائية و لا سيما خلال فترة الأوبئة.
لقد ضيع المغرب على نفسه منذ الاستقلال حتى الآن عدة فرص تاريخية من أجل بناء دولة اجتماعية قوية تتوفر على بنيات صحية وسياسات سوسيواقتصادية قادرة على مواجهة الأزمات بشكل يسمح للدولة المغربية بربح الوقت واختزال المجهود، وكذا عقلنة نفقات التسيير والتجهيز عبر تبني آليتي الفعالية والنجاعة. لكن ما لاحظناه مع الأسف هو بروز سياسات ترقيعية مصحوبة بارتجالية في اتخاذ القرارات، إضافة إلى عنصر آخر لايمكن إهماله في هذا الإطار، ويتعلق الأمر أساسا بمحدودية السياسات التنموية، رغم الميزانيات الضخمة التي رصدت لها، منذ ولادة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية سنة 2005، إلا أن مخرجاتها ظلت جد متواضعة ولم ترق إلى مستوى انتظارات المواطنين. بل على العكس من ذلك، شكلت هذه المبادرة موردا ريعيا لبعض الفاعلين العموميين، نظرا لمساهمتها في توسيع شبكاتهم الزبونية والانتخابية على حساب المصلحة العامة وخدمة المواطن.
أظهر وباء كورونا الجانب المظلم والسلبي من مسار بناء التنمية بالمغرب إلى درجة أصبح معها التساؤل ملحا حول قدرة بنيات الدولة على أن تكون فاعلا تنمويا أمام تغول مجموعة من الشبكات الريعية التي أصبحت تتحكم في أسس قواعد اللعبة السياسية ببعض الجهات والأقاليم. لذا، يعتبر الريع أهم حاجز أمام التنمية، باعتباره سبب كل الأزمات التي تعرفها البلاد والتي ساهمت في إضعاف حكامتها السياسية والاقتصادية . إذ توجد هذه الأخيرة اليوم على محك وباء كورونا الذي يعتبر بمثابة أزمة مركبة ترمز أبعادها المتعددة إلى أن الدول الهشة أقل حظا في القدرة على مواجهة هذه الأزمة. لأن الأمر يشترط حلولا بنيوية يتطلب بناؤها عقودا زمنية أمام جائحة تستلزم مواجهتها التوفر على آليات وأدوات سريعة قد لا تسمح الظرفية التاريخية لهذه الدول بالتوفر عليها.
إن مطلب العدالة الاجتماعية يفرض نفسه اليوم أكثر من أي وقت مضى، لأن مشروعية الفاعل والبنيات السياسية والإدارية مرتبطة به. وهنا نرجع إلى أفكار كل من ماكس فيبر ومؤسسي نظرية “العقد الاجتماعي”، التي جعلت من فعالية الأداء المؤسساتي والسياسي لبنيات الدولة شرطا أساسيا، ليس فقط لتحقيق النظام العقلاني، ولكن أيضا لاحترام الحقوق الطبيعية للفرد. فمخرجات السياسات العمومية يفترض فيها تحقيق سعادة المواطن والالتزام بمقتضيات “العقد الاجتماعي” الذي بموجبه سلم المواطن السلطة وحق التمثيلية للفاعل السياسي. لكن فيما يخص حالة المغرب يظل الحديث عن هذه الأمور شائكا أمام محدودية الحل الديمقراطي وسيطرة الماضي التقليدي المؤسساتي الذي لازال يغذي الثقافة السياسية المغربية بمجموعة من القيم السلطوية المتعارضة مع كل محاولة أو مشروع يهدف إلى إعادة الاعتبار لقيم الديمقراطية والعقلانية.
يبدو أن جائحة كورونا باتت مدخلا أساسيا لإعادة قراءة المسار الاصلاحي بالمغرب ومستقبل الديمقراطية والتنمية به. فقد فتحت هذه الجائحة الباب على مصراعيه أمام سياق اجتماعي وسياسي متسم بالتعقيد والشك وزيادة مستوى التشاؤم بسبب نوعية المخاطر التي أصبحت الدول مطالبة بالتعامل معها ليس فقط في إطارها البيولوجي ولكن من خلال مواجهة آثارها السالفة الذكر. كما أن مستقبل الدولة أصبح هو الآخر رهينا بهذا الأمر الذي لا يمكن التغلب عليه إلا من خلال وضع قواعد سياسية جديدة تقدم حلولا جذرية للأزمة وفق منطق يؤمن بضرورة القطيعة مع الممارسات الريعية و السلطوية و تبني استراتيجيات سياسية إصلاحية ترد الاعتبار لمفاهيم العدالة الاجتماعية و الديمقراطية. و الحالة المغربية لا تخرج عن هذا السياق التحليلي لأنها قد تواجه مستقبلا مجموعة من العوائق التي قد تزيد تعميق أزمتها. فنحن اليوم لسنا فقط في مواجهة وباء كورونا ولكننا أيضا أمام أزمة الدولة الاجتماعية وأزمة السياسة التي ساهمت مخرجاتها في تأخر المجتمع، فأصبح هو الآخر موضوعا لمجموعة من التحولات السلبية التي مست بنياته الاجتماعية بصورة متسارعة.
لقد أضحى المجتمع المغربي موضوع انحباس قيمي ساهم في تآكل مرجعيته الثقافية والأخلاقية أمام سيطرة متوحشة لثقافة الأنانية والانتهازية، ولعل هذه العوامل تشكل نقطة تقاطع بين الحقلين السياسي والاجتماعي في إطار معادلة تكاملية كل واحد منهما يتأثر بالآخر. هذه النقطة من المفترض أن تكون في صلب دراسات سوسيولوجية تهتم بكيفية البناء الاجتماعي للسياسة، ودور المجتمع في بناء الدولة عبر لعب دور مدني يؤهله ليكون فاعلا تاريخيا ومدنيا في نفس الوقت.
في الختام، فبالرغم من التشاؤم الذي صاحب تحليلنا حول وباء كورونا وانعكاساته على المسار الإصلاحي بالمغرب، لكن نبقى متشبثين بتفاؤل الإرادة حسب تعبير غرامشي، فهذه الأخيرة تشكل أهم دافع لمراجعة المطبات والسير بخطى جديدة نحو إصلاح سياسي وتنموي يضع في صلب أجندته كرامة المواطن، عبر إعادة رسم سياسات اقتصادية واجتماعية تحد من الفوارق الطبقية والهشاشة الاجتماعية، التي لازالت شرائح واسعة من المجتمع موضوعا لها و في نفس الوقت شكلت أحد أهم الجوانب التي كشف وباء كورونا عن أبعادها وتجلياتها. فالمستقبل لن يبنى إلا عن طريق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
حسن الزواوي
باحث في العلوم السياسية