يعتبر المجتمع المدني فاعلا أساسيا في معادلة تحديث المجتمع و دمقرطة الدولة، إذ يتوفر على مقومات مؤثرة اجتماعيا وسياسيا تؤهله للعب هذا الدور التاريخي. و لعل المسار الذي قطعته مجموعة من البلدان الديمقراطية في بناء نموذجها المجتمعي و المؤسساتي، يشكل دليلا على مدى أهمية إسهامات مكونات المجتمع المدني في هذا المجال. غير أن الحديث عن الحالة المغربية بشكل عام، و الأقاليم الصحراوية بشكل خاص، يفترض مقاربة تحليلية مختلفة تأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات الثقافية و السوسيولوجية، ناهيك عن الشرط التاريخي الذي صاحب و حدد في نفس الوقت بناء الدولة. لذا، فإن هذه الدراسة حاولت تسليط الضوء على طبيعة العلاقة بين المجتمع المدني والنسق الصحراوي، المتميز بخصوصية قبلية تضفي على العنصر الأنثروبولوجي أهمية مركزية في كل محاولة تصبو إلى دراسة دور مكونات المجتمع المدني.
من هذا المنطلق، تبدو أيضا ملامسة العلاقة القائمة بين المجتمع المدني والفعل السياسي بالأقاليم الصحراوية مقترنة بعدة متغيرات تشكل في نفس الوقت جوهر الخصوصية الثقافية للمدن الصحراوية. يتعلق الأمر أساسا بالطابع القبلي و الحمولة الإثنية للعلاقات الاجتماعية، ثم طبيعة التمثلات الاجتماعية للأفراد حول المجتمع المدني و السياسة كمجال تتمفصل بداخله الصراعات القبلية، و التي أصبحت غالبا ما تتمظهر عبر أشكال جمعوية.
لذا، كان الهدف من هذه الدراسة هو الكشف عن طبيعة الدور والقوة اللذين تتمتع بهما مكونات المجتمع المدني بالمدن الصحراوية، وهنا أخص بالذكر كل من مدن العيون وطانطان وكلميم. في سبيل ذلك قمت بإجراء مجموعة من المقابلات مع فاعلين سياسيين ومدنيين بهذه المدن، كما تم توظيف تقنية الملاحظة التشاركية بغية الرصد الميداني لأنشطة بعض مكونات المجتمع المدني ومن أجل فهم طبيعة الدور الذي تقوم به. فالهدف هنا من هذه الإجراءات الإمبريقية هو القيام بتحليل وصفي ونقدي في نفس الوقت للمجتمع المدني بهذه المدن في إطار مقاربة سوسيولوجية و أنثروبولوجية، تساعدنا على تحليل كيفية تجسيد فكرة المجتمع المدني ومن خلالها الفعل المدني داخل الأنساق المحلية.
1- المجتمع المدني و العلاقة الجدلية بين المنطقين المدني و القبلي
خضع تنظيم المجال بالصحراء لتحولات متتالية نتيجة للسياسات الترابية التي أقدمت عليها الدولة بهدف إعادة تشكيل هذه المجالات وفق مقاربة إدارية وسياسية، حيث تمت إعادة بناء مجموعة من الوحدات الحضرية وإحداث أخرى لكي تتجاوب مع شروط التقطيع الترابي الذي فرضته سياسة اللامركزية المعتمدة منذ سبعينيات القرن الماضي. وكانت آخر محطاتها هو التقسيم الجهوي الجديد المحدث سنة 2015 والذي بموجبه تم إحداث ثلاث جهات بالصحراء: جهة كلميم وادنون، جهة العيون بوجدور الساقية الحمراء، ثم جهة الداخلة وادي الذهب. فقد انصهرت الممارسة والفعل الاجتماعيين داخل قالب حضري متسم بالتعقيد وتعدد الأدوار التي يجب أن يقوم بها كل فاعل داخل هذا الفضاء، مما سيشكل تحديا لاستمرارية وتكيف العامل الإثني والقبلي مع الأشكال الجديدة للتواصل الاجتماعي، باعتبار أن المدينة وعلى عكس المجال البدوي تتسم بطابع السرعة والدينامية والحركية. فالتفاعلات بين عناصرها ومكوناتها – وكذا ارتباطها بالإنسان – هي على نحو دائم معرضة للتغيير حسب تعبير عبد العاطي السيد.
كما يجب الأخذ بعين الاعتبار معطى الانتقال الديمغرافي الحاصل بالمدن الصحراوية، إذ تشكل مثلا مدينة العيون أهم نموذج تحيل معطياته الإحصائية على ازدياد عدد الساكنة بالمجالات الحضرية، و التي بلغت 343362 نسمة أي ما يناهز %69 من مجموع السكان الحضريين بجهة العيون الساقية الحمراء حسب احصائيات المندوبية السامية للتخطيط. وهو ما يدفعنا الى إعادة دراسة المجال الصحراوي انطلاقا من مدنه، باعتبارها حقلا جديدا للدراسة والملاحظة الميدانية التي تعد هنا أحد أهم المداخل لرصد أشكال وتجليات انصهار القيم و السلوكات البدوية في البيئة الحضرية. ويدعونا هذا المعطى إلى استحضار تصورات وإنتاجات مدرسة شيكاغو، والتي أتت بمجموعة من المفاهيم مثل الاندماج والتنظيم الاجتماعيين داخل الوسط الحضري، دون أن ننسى بأن المرور إلى المجال الحضري هو في حد ذاته انتقال من المجتمع التقليدي القائم على التضامن الآلي إلى مجتمع مركب يرتكز في بنائه على التضامن العضوي.
وبذلك يعد المجال الحضري الصحراوي حقلا تتمظهر من خلاله مجموعة من التقاطعات ولاسيما تلك المتعلقة بالمجال والقبيلة مع اعتبار هذه الأخيرة حسب تعريف موريس كودلي كأحد أهم أشكال إنتاج المجتمع التقليدي المعتمد على روابط عرقية وعاطفية حقيقية أو افتراضية، يبقى الهدف منها هو خلق وحدة اثنية تكون بمثابة وسيلة للتحكم في المجال . فطبيعة العلاقة القائمة بين المكون القبلي والمجال تتسم ببروز نوع من التفاعل والتعاطي الاستراتيجي مع معطياته، وذلك من أجل أن يصبح هذا الأخير فرصة وموردا في نفس الوقت لإعادة تمركز القبيلة، وإنتاج منطقها الهوياتي، وهذا ما يؤدي إلى بروز إشكال متعلق بكيفية تحقيق التوافق بين القيم القبلية المتسمة بالتعصب والطابع الهوليستيكي الذي لا يؤمن باستقلالية الفرد، وقيم المجتمع المدني التي من المفترض فيها أن تنبذ التعصب وتؤمن بالاختلاف والمبادرة الفردية تماشيا مع القيم التاريخية المؤسسة والمشرعنة لوجوده.
لقد أضحت ثنائية القبيلة والمجتمع المدني محور جل الدراسات التي تبحث في إمكانية وجود هذا الأخير داخل أنساق ثقافية واجتماعية تستند على القبيلة والقبلية السياسية؛ من حيث هي عقلية عامة ومبدأ تنظيمي، كما أشار إلى ذلك خلدون حسن النقيب في دراسته للواقع السياسي لبلدان الخليج العربي . فالحديث عن فعالية ودور المجتمع المدني ظل يصطدم في العالم العربي بالخصوصية القبلية، التي اضطلعت بأدوار مهمة في استمرار العلاقات التقليدية المتعاطية مع التنظيمات المدنية بمنطق أداتي جعلها رهينة استراتيجيات إثنية تهدف إلى اختزال دور هذه التنظيمات في إعادة إنتاج القيم القبلية. وساهمت كذلك استراتيجية الدولة في ترسيخ المنطق القبلي وتوظيفه وفق ما نسميه بالتفاضلية القبلية، والتي بسببها ظل الصراع قائما بين القبائل القاطنة بالمجال الصحراوي، و التي تميزت بعدة احتكاكات بين التنسيقيات القبلية مع ادعاء كل منها حيازة المشروعية التاريخية والإثنية التي تضمن لها الدفاع عن هذا المجال باعتبارها من السكان الأصليين، وأيضا التقرب من الدولة وولوج مؤسساتها بغية الحصول على فوائد مادية ورمزية. فقد ساهم ازدياد عدد التنسيقيات القبلية في بروز ظاهرة الأعيان الجمعويين الذين لا يبحثون في الغالب سوى عن زعامات سياسية وقبلية يكون الإطار الجمعوي فرصة لتجسيدها.
ومن خلال معاينة أنشطة بعض الجمعيات وكذا مقابلة الفاعلين بالمدن موضوع الدراسة، لاحظت تمسك مجموعة من القبائل الصحراوية بضرورة إحداث تنسيقيات قبلية بغية توحيد صفوفها وخلق دينامية اجتماعية. لكن كيفية انصهار القبيلة داخل مكونات المجتمع المدني قد يؤدي إما إلى تعميق أزمة هذا الأخير، أو قد يشكل فرصة لخلق توافق بين العنصرين وفق مقاربة تشاركية تفتح باب العمل المدني لكل القاطنين بالمجال سواء كانوا من القبيلة أم لا، للمشاركة في الحقل الجمعوي. الأمر الذي قد يجعل من الإطار القبلي مرادفا إمبريقيا لفكرة المجتمع المدني، لأن تأثير القيم المدنية على المرجعية الإثنية يتجلى في قدرتها على تطويع هذه المرجعية وإخضاعها لتأويلات عقلانية تتحول بموجبها القبيلة إلى عنصر حاضن للمجتمع المدني ومفندا لتلك الأطروحات السلبية المؤمنة باستحالة بناء المجتمع المدني داخل الأنساق القبلية أو التقليدية .
2 –الاستثمار الجمعوي في الشأن المحلي كمدخل لممارسة السياسة
شكلت المقاربة التشاركية فرصة للجمعيات لامتلاك آليات تواصل جديدة تساعدها على التأثير في مجريات الأحداث، وذلك عبر قدرتها التعبوية التي تجلت لنا في الحراك الاجتماعي الذي عرفته مدينة كلميم، لاسيما في فترة الصراع السياسي الذي كان قائما سنوات 2014 و2015 بين الوالي (م.ع.ع) ورئيس المجلس البلدي لكلميم (ع. ب)، حيث انخرطت بعض مكونات المجتمع المدني في هذا الصراع من خلال اصطفافها إلى جانب أحد طرفيه.
أهم ما لاحظته أن بعض الجمعيات أصبح لها دور احتجاجي يستند في بنائه على مرجعيات جديدة مقتبسة من السياسات العمومية والدستور وأيضا من القوانين التنظيمية للجماعات الترابية، لأنها شكلت الإطار الذي يبرر ويفسر ويضفي الشرعية على احتجاجاتها . وهنا نحيل على بعض المفاهيم المستعملة من طرف هذه الجمعيات، مثل ربط المسؤولية بالمحاسبة، تخليق الحياة السياسية وتحقيق العدالة المجالية…، فهذه المفاهيم كانت ولا زالت حاضرة بقوة في الخطاب والملف المطلبي لبعض الفعاليات الجمعوية التي على ضوئها يتحدد التزامها المدني وطرق فعلها.
هكذا أصبحت التنمية كمسلسل وبرامج، محل تأويل احتجاجي يقوي من الدور السياسي لعدد معين من منظمات المجتمع المدني، إذ شكلت مرتكزا تستند إليه قوتها السببية. كما تجب الإشارة إلى أن اهتمام الفاعل الجمعوي بكل ما يتعلق بالشأن المحلي وطرق تسيير المنتخبين للشأن العام يعتبر مؤشرا على اهتمامه بالسياسة والفعل السياسي، وهذا ما يفسر أيضا الدافع وراء ترشح بعض الفاعلين الجمعويين في الانتخابات بالمدن الصحراوية.
بل إن الفاعل السياسي حاول إخضاع التنمية لعدة استعمالات سياسية فيما درج الفاعلون على وسمه بـــ “تسييس التنمية”، بحيث تجلى ذلك من خلال تركيز بعض الفاعلين السياسيين على المنجزات الاقتصادية والاجتماعية التي كانت حاضرة بقوة في الحملة الانتخابية في شتنبر2015 التي قام بها رئيس المجلس البلدي ومرشح حزب الاستقلال بالعيون (ح.و.ر). هذا ما جعل مشاريع وبرامج التنمية محل جدال سياسي بين مرشحي حزبي الاستقلال والتجمع الوطني للأحرار بالعيون خلال فترة الانتخابات الجهوية لسنة2015. لأن هذا الأخير أثار إشكالية التوظيف الانتخابي لهذه المشاريع والبرامج وكذلك استغلال بعض الجمعيات انتخابيا مقابل حصولها على الدعم المادي في إطار “برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية”. فلقد كان مرشحو التجمع الوطني للأحرار يستحضرون هذه المعطيات كأدلة مفندة لمشروعية الإنجاز كرأسمال سياسي/انتخابي بالنسبة لمرشحي حزب الاستقلال وخصوصا رئيس المجلس البلدي (ح.و.ر).
كما شجعت الأهمية الاستراتيجية والانتخابية للفعل المدني مجموعة من الأحزاب بالمدن موضوع الدراسة على الانفتاح على مكونات المجتمع المدني، وذلك في إطار شراكة تعاقدية تؤسس لعلاقة جديدة بينهما بموجبها توفر منظمات المجتمع المدني الأصوات الانتخابية مقابل التزام المرشحين بتلبية مطالب هذه المنظمات. وهذا ما لاحظناه في الانتخابات الجهوية لسنة 2015 بمدينة طانطان.
إن من أهم النقط التي أثارت انتباهي، عند مواكبتي الميدانية لعمل وتصور بعض مكونات المجتمع المدني بالمدن موضوع الدراسة، هو اختزالها للفعل المدني في بعده السببي القادر على إنتاج آثار سياسية، مما أدى إلى حدوث تنافس بين الفاعل الجمعوي والأعيان الإنتخابيين بهذه المدن، هذا ما جعل بعض الجمعيات تشتغل وكأنها حزب سياسي تهتم بالسياسة أكثر مما تهتم بما هو مدني. الأمر الذي يشكل مفارقة تواكب عمل المجتمع المدني، كما تؤسس لبرغماتية جديدة ترى في العمل المدني طريقة أخرى لممارسة السياسة.
وإجمالا يمكن حصر الأسباب التي أدت إلى هذا الاهتمام المتزايد بالسياسة إلى عدة عوامل أهمها:
- ارتفاع درجة التسييس أمام محدودية تأثير الوعي المدني بالمدن موضوع الدراسة،
- النظرة الاختزالية للسياسة في كونها مقياس لكل الأحداث والأشياء بالمجتمع الصحراوي،
- الشرط التاريخي المرتبط بقضية الصحراء وإسهامه في تزايد اهتمام الصحراويين بالسياسة،
- وجود شرط نفسي/ثقافي يؤصل لقيم تعلي من شأن السياسي في أوساط إنسان الصحراء، مما يفسر تضخم المعنى السياسي إنتاجا واستهلاكا، حيث يتم تمثل السياسة باعتبارها مدخلا لإنتاج الرأسمال الرمزي ومشتلا لتغذية المكانة الاعتبارية للفرد والمجموعة.