إنّ البحث في مسار تحديث بنيات الدولة العربية، ليس بالأمر الهيّن، وذلك لسبب بسيط يكمنُ في تفرّد النسق السياسي العربي بمجموعة من الخصوصيات الثقافية والسوسيولوجية المتجسدة أساسا في الإرث السلطاني كمرجعية إيديولوجية تمنح للسلطة السياسية مضمونا دينيا. لقد كان الهدف من التشبث بهذه المرجعية هو إيجاد تبرير قِيَّمي وإضفاء الشرعية على التصورات السلطوية، التي ظلت تحدد اشتغال أجهزة الدولة العربية منذ بروز أزمة الخلافة.
يمنح التشبث بالمنطق السلطاني وتأويلاته، كمكتسب تاريخي، الدولة العميقة أو التقليدية مشروعية متعالية، كما يخول لها سلطة اختراق المجال الدستوري، ناهيك عن حقل ممارسة العنف المشروع؛ فنجد مثلا في نموذج “المخزن” بالمغرب تقليداً حاضراً، له استراتيجياته وميكانيزمات استمراريته بشكل يجعله يُخضع مسلسل تحديث بنيات الدولة لشرط استمراريته. إن تركيزنا هنا على هذا الشرط ليس الهدف منه تحجيم قيمة التراث السياسي العربي في مجال بناء الدولة، بل، وعلى العكس من ذلك، نود أن نفهم الكيفية التي لم يساهم بها الحفاظ على هذا التراث في ولادة دولة عقلانية حديثة بالعالم العربي. قد يبدو للبعض أن هذا الموضوع مستهلك لأنه أخذ حيزا كبيرا من الأبحاث المخصصة لطبيعة الدولة العربية، غير أن فهم وتحليل الأزمات التي يمر بها العالم العربي حاليا يبين لنا على أنها ليست أزمات ظرفية بل هي ، وفي العمق، بنيوية مرتبطة أساسا بالفشل في إرساء قواعد دولة المؤسسات ورسم قطيعة مع قواعد الإرث السلطاني التي تطبع طقوس وأخلاقيات الحياة الدستورية والسياسية عموما بالعالم العربي، وتشرعن شخصنة السلطة طرق استعمالها السياسي، كما تعرقل، في الوقت ذاته،كل محاولة لمأسسة هياكل الدولة.
لقد تميز الانفتاح على النموذج الفيبري للدولة الغربية بتعقد مسلسل استيراد هذا النموذج داخل النسق السياسي العربي،لأن طريقة تبيئة القواعد الدستورية والأجهزة البيروقراطية لم تساعد، في الغالب، إلا على تقوية عضلات الدولة العربية على حساب حقوق المواطن وحرياته،وجعل منها دولة متضخمة تخترق أجهزتها كل البنيات الاجتماعية وتُضيق الخناق على أنشطة المجتمع المدني المفترض أن يكون فضاء محددا للحرية ومؤسسا لسلطة مضادة لسلطتها. وبعبارة أخرى، إن هيمنة الدولة على تنظيم و تأطير الأفراد والجماعات يجعل منها، أي الدولة المتضخمة، أخطبوطا يخترق كل المجالات الحياتية ويحتكر بامتياز مخططات التحديث، في الوقت الذي يجب أن يكون ميلاد الحداثة منبثقا من صلب المجتمع. لقد كرس مسلسل بناء الدولة العقلانية بالعالم العربي واقعا مؤلما جسدته طبيعة التمثلات الاجتماعية التي يتصور بها المواطن شكل الدولة كجسم غريب يرتبط دوره بالقمع أكثر منه بخدمة المجتمع.
إن سيرورة معقدة تسم تَكوٌّن و تَشكل الدولة الحديثة بالعالم العربي، بحيث ظل التقليد سمة بارزة في تحديد طبيعة أجهزة الدولة ووظيفتها، وذلك بفعل خضوعها لتصور سياسي محافظ يكيفها عكسيا مع شرط الاستمرارية التاريخية و مع خصوصية الإرث السلطاني الذي توجهه خلفيات الشرعنة و تهميش المكانة الفعلية للقانون المستورد المفترض فيه أن يسرع من وتيرة مسلسل تحديث الدولة العربية، فمنذ ولادة دولة ما بعد الاستقلال بالعالم العربي، لم تساهم استراتيجيات استيراد النماذج الغربية إلا في تعميق أزمة الدولة العربية التي تتحدد هنا في عدم قدرة القواعد القانونية المستوردة على تأطير الممارسة السياسية للفاعلين وعقلنة اشتغال أليات أجهزة الدولة.
لقد كان الهدف من الانفتاح على النماذج الغربية غالبا ما يتمثل في إضفاء شكل عصري على الدولة السلطانية، وهذا ما يخول لنا الحديث عن الشكل المزدوج للدولة العربية، سطحي متمثل في الأجهزة المستوردة وعميق متجسد في بنيات الدولة السلطانية.
وبذلك تحدد هذه الازدواجية طبيعة الدولة بالعالم العربي عبر تفاعل جدلي بين الطابع التقليدي الكامن والمجسد لبنية الدولة ونزوعها العصري المترجم في هاجس الإصلاح الموجه للفاعلين، كما تشير إلى ذلك حيثيات المفارقة التاريخية التي أشار إليها عبد الله العروي في كتابه “مفهوم الدولة” والمفارقة السوسيولوجية التي شكلت جوهر تحليل بيرتاند بادي لمفهوم الدولة المستوردة، إذ لا يمكن مقاربة مفهوم الدولة الحديثة بالعالم العربي دون استيعاب الدلالية الملتبسة و المتناقضة لهذا المفهوم الذي يحتاج اليوم إلى مراجعة سياسية تلزم الطبقات الحاكمة بضرورة القطع مع الأساليب و التصورات السلطوية.
إن أهمية بناء الدولة العقلانية بالعالم العربي تفرضه طبيعة التحولات السياسية التي يمر منها العالم وكذلك ضرورة الالتزام بالخيار الديمقراطي من أجل التخلص من التبعات السلبية المقترنة بالنمط السلطاني الذي وقف حاجزا أمام كل المحاولات الهادفة إلى إرساء قواعد دولة حديثة. على ضوء هذه الشروط يجب دراسة واقع و أفاق دمقرطة الدولة العربية ، مع فتح باب النقاش أمام كل التساؤلات الهادفة إلى إعادة قراءة المرجعية التاريخية المشرعنة للدولة السلطانية و ذلك وفق مقاربة نقدية شاملة تؤمن بالتكامل المعرفي بين كل المتغييرات التحليلية، التي تفسر استمرارية و تطور ظاهرة الدولة التقليدية أو العميقة. لأن إعادة تحليل هذه الأخيرة يمنحنا فرصة من أجل وضع الأسس المعرفية الكفيلة بإعادة الإعتبار للإرث التاريخي المتعلق بالدولة العربية و ذلك عبر تحرير هذا الأخير من كل الإستعمالات الإيديولوجية التي لم يكن هدفها سوى توفير ضمانات قِيمية لنسق سلطوي.
هكذا نرى أن إشكالية الدولة العقلانية الحديثة بالعالم العربي، تضع علاقة الرصيد التاريخي للدولة العربية بالمرجعية الفيبرية الغربية، بمعنى أنه لا يمكن التفكير في هذه الإشكالية دون أن نحدد العلاقة التي يجب أن تربط بينهما، و يبدو لنا أننا متى نظرنا في هذه الفرضية و متى تأملنا مسلسل دمقرطة بنيات الدولة العربية، نستنج بأن فرص نجاح هذا المسلسل ترتبط بوجود إرادة سياسية و اجتماعية و ثقافية قادرة على تخطي ثنائية التقليد و الحداثة و بلورة صيغة توافقية بين الإرث التاريخي و النموذج الغربي، لكي نضع حداً للمفارقات التاريخية و السوسيولوجية التي ميزت مسار بناء الدولة الحديثة بالعالم العربي.
و لابد في الأخير من الإقرار بأنه حين نتحدث عن مسلسل التحديث بالعالم العربي، يذهب بنا الفكر إلى سياق لا تنفصل فيه عقلنة مؤسسات الدولة عن تحرير المجتمع من سلطة الدولة المتضخمة، لأن كسب الرهان الديمقراطي يتطلب بلورة مشروع دولتي يكون نتاج مفهوم تعاقدي ينشأ عنه نظام حقوقي جديد يصالح الدولة مع المجتمع. فبدون ذلك يتحول أي مشروع يصبو نحو وضع لبنات دولة المؤسسات إلى مجرد خطاب إيديولوجي يكون هدفه الحفاظ على الإرث السلطاني و الإلتفاف على مشاريع التحديث.