أدّت مرحلة التّحوّل الصّناعي  إلى إحداث تغييرات جذرية في أنماط العيش داخل مجتمعات الدول الغربية و تنظيمها الداخلي وفق تصور رأسمالي يؤمن بحرية المبادرة الاقتصادية و استقلال السوق ،مثلما أكدت ذلك نظريات أدم سميث و ريكاردو. فمنذ الثورة الصناعية احتلت الأدوات الآلية مكانة محورية في سلاسل الإنتاج الاقتصادي، لكن تأثيرها على الوضعية السوسيواقتصادية للطبقات العاملة مَهَّد لظهور مقاربات نقدية لأساليب الإنتاج الرأسمالية وأيضا لدينامية الحل التكنولوجي. و تندرج تحليلات النظرية الماركسية في هذا التوجه الفكري الذي يركز على عدة مفاهيم أساسية مثل الاستغلال الطبقي و الاستلاب لشرح كيفية اشتغال قواعد الاقتصاد الرأسمالي وأسس هيمنة الطبقة البورجوازية.

لقد واكبت دينامية الاقتصاد الرأسمالي دراسات متعددة للأبعاد السياسية و الإيديولوجية للحل التكنولوجي، الذي يصبو إلى تقليص الوظائف السوسيواقتصادية للإنسان أمام هيمنة الألة كأسلوب جديد لتدبير مشاكل الاقتصاد و المجتمع. فأهمية المقاربة النقدية بخصوص هذا الموضوع، تتجلى في التحذير المسبق لثلة من المفكرين من التبعات السلبية التي قد تنتج عن هيمنة العامل التقني وتجدره في قلب البنيات السياسية و الاجتماعية. في هذا الصدد نشير إذن إلى تساؤلات مارتن هايدغر  (Martin Heidegger)حول‘’السيطرة التقنية’’، حيث تجاوزت النظرة التقليدية التي تختزل التكنولوجيا في بعدها المادي الصِرف لكي تهتم بعلاقتها الجدلية مع الوجود الإنساني، و تحديد قدرة الوسائل التقنية على تغيير أهداف هذه العلاقة لصالحها عندما بدأ الإنسان يفقد السيطرة عليها و يخضع لسلطتها.

إنّ جوهر تصوّر هايدغر حول التكنولوجيا يتمثل في تأكيده على استقلالها عن إرادة الفرد الذي يستعملها وذلك نتيجة قيامها بمجموعة من الأدوار الاجتماعية التي تنازل عنها الإنسان. هكذا أدت الدينامية التقنية إلى بسط سيطرتها على الواقع الاجتماعي بشكل متدرج  موازاة مع تطور الاقتصاد الرأسمالي، الذي يستقي قواعد اشتغاله من مرجعية إيديولوجية تدافع عن أهمية العامل التكنولوجي كحل أمثل لتحقيق الرفاه  المادي للأفراد و تسهيل ولوج المجتمعات إلى مرحلة التقدم و الازدهار. بَيد أن تحليل الفيلسوف الفرنسي جاك إلول  (Jacques Ellul) للظاهرة التقنية يسلط الضوء على تداخل مكوناتها الداخلية حسب تصميم يعقد عملية تفكيكها و عزل العناصر الضارة عن الإيجابية منها. فما يقصده جاك إلول في هذا الإطار بوحدة الظاهرة التقنية هو أنها تجسد شكلا موحدا يصعب على الإنسان التحكم في أجزائه و تحييد تأثيراتها السلبية، نظرا لكون المنتوج التقني سلاح ذو حدين بإمكانه أن ينفع الإنسان و في نفس الوقت  يُسبّب له أضرارا. هذا الأمر يستدعي وجود ضوابط أخلاقية تتحكم في كيفية استعمال وسائل التكنولوجيا.

لقد أضحى هذا الأمر ملحا بموازاة مع ارتفاع وتيرة التقدم التكنولوجي الذي تجسده في عصرنا الحالي أجهزة الذكاء الاصطناعي المتوفرة على قدرات هائلة على تجميع معلومات التدريب و حل مشاكل المجتمع بطريقة تتجاوز الذكاء الإنساني. فطبيعة أدوار التقنيات الجديدة تَسلك بالمجتمعات الانسانية نحو ثورة رقمية متطورة و متجلية في الوظائف المختلفة التي تقوم بها الروبوتات كفاعل يحاكي السلوك البشري. يبرز هذا التحول مدى تجاوز الذكاء البشري بواسطة الاستثمار في الحل التقني المتطور، الذي أعطي للروبوتات سلطات واسعة من أجل خلق دينامية اجتماعية و نمو اقتصادي متكامل، استفادت من نتائجه بشكل رئيسي شركات التكنولوجيا الكبرى على المستوى العالمي مثل أمازون و غوغل و ميكرسوفت.

يعكس الواقع حجم السلطة المالية لهذه الشركات و مستوى تأثيرها الاقتصادي و السياسي ،حيث تتحكم في نظم  الحكم بغالبية الدول، فمثلا في الولايات المتحدة الأمريكية نجد أن إيلون ماسك يضطلع  بصفته الرئيس التنفيذي والمؤسس لشركة سبيس إكس، بدور محوري في إدارة ترامب في نسختها الثانية كمسؤول بإدارة كفاءة الحكومة الأمريكية. كما يُترجم النفود السياسي للشركات التقنية الكبرى هيمنة الأوليغارشيات المالية على مؤسسات القرار الاستراتيجي بالدول الصناعية الكبرى، إذ تمول شركات التكنولوجيا هذه جماعات الضغط سواء بأمريكا أو بالاتحاد الأوروبي بهدف حماية مصالحها الاقتصادية والمالية ؛ ففي سنة 2021 أنفقت ما قدره 113 مليون أورو على عدد من  أعضاء البرلمان الأوروبي . بفضل التقدم التكنولوجي تمكنت شركات التقنية الحديثة  من إحكام سيطرتها  على مقدرات الاقتصاد العالمي الذي يستمد قواعد تنظيمه من الإيديولوجية النيوليبرالية. تدافع هذه الأخيرة عن سلطة و هيمنة قواعد ونظم السوق باعتباره فاعلا مركزيا و ضابطا لإيقاع دينامية الاقتصاد و السياسة الدوليين  مثلما تنبأ بذلك الاقتصادي الامريكي ميلتون فريدمان، الذي يعتبر  أحد منظري النظرية النقدية ورائد من رواد مدرسة شيكاغو في الاقتصاد.

إنّ أفاق اِزدهار الصناعة الرقمية و الذكاء الاصطناعي تتقاطع مع هيمنة العقلانية الأداتية كخيار استراتيجي ترمي من خلاله شركات التكنولوجيا الكبرى إلى الدفاع عن فعالية ونجاعة  الحل التكنولوجي، بغية وضع أسس صلبة لثورة صناعية مختلفة عن تلك التي شهدتها أوروبا في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر، و كذلك تزكية دور التوجه الرأسمالي في نجاح عملية التحول الرقمي.

بالرغم من سرعة الانتشار الاجتماعي للتقنيات الجديدة للتواصل فإن الأخطار المصاحبة لاستعمالاتها المتعددة تجعلنا جد حذرين في التعاطي مع وظائفها السوسيواقتصادية، لأنها تُترجم رؤية إيديولوجية هدفها السيطرة على الإنسان و المجتمع. و لعل التخوف من الانعكاسات السلبية للذكاء الاصطناعي تؤكدها طبيعة الأخطار التي بإمكانه إحداثها. ونشير في هذا الصدد بالضبط إلى البيان الذي وقعه مجموعة من العلماء المتخصصين في مجال البرمجيات، نذكر من بينهم سام التمان، الرئيس التنفيذي لشركة أوبن إيه آي، المسؤولة عن برنامج “تشات جي بي تي” و كيفن سكوت الرئيس التنفيذي للتكنولوجيا في شركة مايكروسوفت، في ماي 2023 حول خطر انقراض الإنسان بسبب عدم ضبط استعمال الذكاء الاصطناعي، و شدد هذا البيان على أن “التخفيف من خطر انقراض البشرية بسبب الذكاء الاصطناعي يجب أن يكون أولوية عالمية إلى جانب المخاطر المجتمعية الأخرى مثل الأوبئة والحرب النووية”.

نعتقد إذن أن هذه الرؤية التشاؤمية للظاهرة التقنية ليست وليدة اليوم ،بل واكبت كل مراحل التطور التكنولوجي الذي كان من بين المواضيع التي أثارت اهتمام رواد مدرسة فرانكفورت خصوصا هربرت ماركوز (Herbert Marcuse)، حيث انتقد في كتابه ” الإنسان دو البعد الواحد ” الصادر عام 1964، الحداثة الرأسمالية و العقلانية الأداتية المنشغلة كثيرا بالغايات على حساب القيم، و التي من المفترض أن توجِه كل استعمال اجتماعي للمنتوجات التقنية.

يؤكد هربرت ماركوز في هذا السياق على دور العقل الأداتي في استيلاب إرادة الإنسان و تزكية تبعيته للآلة التي في الأصل ليست سوى أداة يخضع اختراعها و استعمالها لتصور رأسمالي، يهدف إلى ضمان تراكم أرباح أصحاب الرأسمال و أيضا إعادة تنظيم الواقع الاجتماعي وفق متطلبات الحل التكنولوجي. لذا، يقتضي منا التفكير في مآلات هذا الحل و أفاق التقنيات الجديدة لوسائل التواصل، الاهتمام بطبيعة مخاطر الحداثة انطلاقا من سياقها التاريخي و الاجتماعي المتمثل في المجتمع الصناعي. فالهدف من ذلك هو محاولة التحكم في ما يسميه ورليش بيك (Ulrich Beck)ب’’مخاطر المجتمع العالمي’’، الناتجة عن دينامية العولمة التي أدت إلى تنوع المخاطر و اتساع نطاق انتشارها.

من بين تداعيات انتشار التكنولوجيات الحديثة استباحة حقوق المواطنين الشخصية، و ذلك بسبب كيفية استخدامها من طرف الأنظمة السياسية سواء كانت ديمقراطية أو سلطوية. ففي سنة 2013  كشف عميل الاستخبارات الأميركية السابق إدوارد جوزيف سنودن لصحيفتي غارديان البريطانية وواشنطن بوست الأميركية، عن استعمال وكالة الأمن القومي الأميركي للاتصالات الهاتفية وبيانات الإنترنت من شركات كبيرة مثل غوغل وفيسبوك  بهدف مراقبة الأفراد و التجسس على خصوصيتهم.

و من اللافت أن الصين تعتبر من أكثر الدول في العالم استخداما للتكنولوجيا الرقمية بغرض التتبع والرصد و الردع، حيث تستعمل أجهزة الذكاء الصناعي للمراقبة أو فحص الوجه البشري . فنظام الرصيد الجماعي في الصين هو شكل جديد من أشكال الرقابة الرقمية يَتم بموجبه توحيد معايير الاقتصاد و ”السمعة الاجتماعية ” المعتمدة على مجموعة من البيانات التي تُجمع من وثائق المحاكم، والسجلات الحكومية أو سجلات الشركات، إذ يتم اللجوء إليها في عملية تصنيف المواطنين الجيدين أو السلبيين. و بموجب هذا التصنيف يحظى المواطنون الذين حصلوا على رصيد اجتماعي كاف أو أرقام عالية بحق الاستفادة من الخدمات العمومية، و يُحرم منها المواطنون ذوو الأرقام المُنخفضة. لقد استطاع النظام الشيوعي الصيني، بواسطة ”نظام الرّصد الاجتماعي”، توسيع مجال مراقبته الرقمية للمجتمع الذي يتعارض مع قواعد احترام حقوق الإنسان ومبدأ الخصوصية.

لقد أدّى، إذن، التّوظيف السياسي للتكنولوجيات الحديثة إلى ظهور السلطوية الرقمية التي تستهدف‘’دولنة’’ المجتمع عبر آليات جد متطورة، تساعد الأنظمة السياسية على رصد كل تفاصيل الحياة الشخصية للأفراد. و من المحتمل أن يزيد تكثيف هذه الممارسات السلطوية الرقمية من ارتفاع درجات الشك  في مصداقية التقنيات الجديدة، التي بدلا من أن تُسهم في تحرير المواطنين من سلطة مراقبة الدولة و تعزيز قدرتهم على ممارسة حقوقهم الشخصية فقد أصبحت أداة لزرع الخوف و القمع و انعدام الثقة بين أفراد المجتمع.

في هذا السياق المتسارع لهيمنة التكنولوجيات الحديثة على المستوى العالمي، تُعد المراقبة الرقمية في دول العالم العربي من أهم خصائص الممارسات السياسية، التي تعتمد بشكل دائم على القمع و تكميم الأفواه المعارضة من أجل حماية أنظمة الحكم، لكن مع تطور الصناعات الرقمية، بواسطة مجموعة من التقنيات ككاميرات المراقبة و برامج التجسس و معالجة البيانات الضخمة، استطاعت الأجهزة الأمنية ببلدان العالم العربي إحكام قبضتها على المجتمع و اختراق مجال الحياة الشخصية للمعارضين و التلاعب بمعطياتها من أجل تشويه سمعتهم الاجتماعية.

لقد استوعبت الأنظمة السياسية العربية الدرس من أحداث ” الربيع العربي ” حيث كثفت من مراقبتها لوسائل التواصل الاجتماعي التي كانت فضاءا للتعبئة السياسية و الاحتجاج الافتراضي ضد سياسات الدولة و أنظمة الحكم. وفي هذا الإطار نستحضر الثورات الشعبية التي شهدتها على سبيل المثال كل من مصر و تونس في سنة 2011، و التي على وقع نتائجها السياسية اعتمدت الأنظمة السلطوية إستراتيجية جديدة للسيطرة و التحكم ترتكز على تنويع أساليب المراقبة الرقمية للمواطنين حتى يَتم ضبط أي تحرك شعبي أو فعل جماعي . نتيجةً لهذا التّوجّه؛ زادت درجة قمع الحريات و التضييق على  حرية استعمال الانترنيت، كما حولت الأجهزة  الاستخباراتية والأمنية بالدول العربية منصات التواصل الاجتماعي إلى وسائل للسيطرة و التشويه  من خلال كتائب ”الدباب الإلكتروني ”، التي غالبا ما يكون الهدف من وجودها  هو نشر تغريدات تمس الحياة الشخصية للمعارضين و القيام ببروباغندا رقمية لصالح النظام السياسي.

ختاما، يعتبر انتشار التقنيات الجديدة في عصرنا الحالي  تحديا بالنسبة للمجتمعات الإنسانية التي أصبحت حرية أفرادها و قواعد تنظيمها خاضعة لتحولات متناقضة، قد تؤدي إلى تفكك بنياتها الأساسية و المس بنسيجها الاجتماعي في المستقبل ، و تقضي على رصيدها التاريخي من الحريات و الحقوق. يتطلب، إذن، التحكّم في استعمال وسائل التكنولوجيا المتقدّمة ولادة وعي جماعي و نقدي يُغذّي مناعة المجتمعات و الأفراد ضد كل أشكال السّلطويّة الرّقميّة و أيضًا الإستلاب التّقني.

بقلم/ حسن الزواوي
باحث في العلوم السياسية والاجتماعية