لا يمكن فهم التطور المؤسساتي للديمقراطيات التمثيلية بدون استحضار معطى الاقتراع العام الذي أحدث ثورة ثقافية وقانونية تمكن بموجبها الفرد من أن يرتقي إلى صفة المواطن الذي يخول له الانتخاب كفعلٍ شكلاً من أشكال المشاركة في الحياة السياسية. هذه المكانة المحورية للعملية الانتخابية توسعت بشكل كبير خصوصا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية واتساع دائرة الدول الديمقراطية، إذ تعد الديمقراطية الانتخابية أحد أهم المعايير المعتمدة لتصنيف الأنظمة الديمقراطية وتدعيم مشروعية النخب الحاكمة.
غير أن الحديث عن الديمقراطية الانتخابية يأخذ منحى مختلفا عندما يتعلق الأمر بالحالة المغربية التي لا زال بناؤها السياسي و المؤسساتي يخضع في اشتغاله لمنطق سلطوي يحد من فعالية هذه الديمقراطية، وكذلك طبيعة الثقافة السياسية السائدة داخل المجتمع والتي لم تستطع بعد تبني قيم هذه الديمقراطية وتأويلها حسب تصور يعكس النضج السياسي للفرد والمجتمع، بل على العكس من ذلك، مازال بناء الديمقراطية الانتخابية يصطدم بالخصوصية الثقافية للمجتمع والمؤسساتية للنظام السياسي الذي يحاول أن يتحكم في مخرجات العملية الانتخابية عبر تقنيتين أساسيتين هما التقطيع الترابي ونمط الاقتراع (تقنية الاقتراع)، بالإضافة إلى العتبة التي تم حذفها وما لذلك من أثر على الحاصل الانتخابي لأطراف سياسية كانت متفوقة انتخابيا، كل هذه العناصر في المحصلة لا تمكّن أي حزب من أن يحصل على أغلبية برلمانية حقيقية.
و لعل الاحتجاجات التي صاحبت إعلان نتائج الانتخابات التشريعية بكل من مدن كلميم و غيرها من الأقاليم تضع رهان الديمقراطية الانتخابية على المحك من خلال الاستحضار القوي لفرضية تدخل وزارة الداخلية في مسار النتائج الانتخابية، و هذا ما يظهر لنا مثلا من خلال تصريحات بعض المرشحين أو تعاليق المواطنين بالعالم الأزرق الذي عبرت غالبية منهم بمدينة كلميم سواء عبر صفحات الفايس بوك أو من خلال الوقفات المنظمة أمام الولاية عن دفاعها عن أحقية المرشح عبد الرحيم بن بوعيدة بالفوز و إدانتها الصريحة لتدخل والي جهة كلميم في نتائج الانتخابات التشريعية.
لكن رغم هذه الحمولة الرمزية و السوسيوسياسية لهذه الاحتجاجات كمؤشر على التحول الطارئ في تمثل المواطنين بمدينة كلميم للسياسة و للانتخابات ، إلا أن هذا لا يمكن أن يشكل معيارا يوحي بتطور السلوك الانتخابي و السياسي بالمغرب، بل العكس قد يكون استحضار حالة كلميم حالة معزولة لأن تشخيص طبيعة العراقيل التي تعيق مسار الديمقراطية بالمغرب ليس بالأمر السهل، نظرا لتداخل العناصر المفسرة وكذلك صعوبة تحليل إطاره السوسيولوجي والتاريخي، و الذي يستدعي منا اليوم إعادة النظر في طرق تحليل العملية الانتخابية كظاهرة اجتماعية تعكس أكثر من أي وقت مضى الطبيعة المركبة للمجتمع المغربي حسب تعبير بول باسكون. هذه الطبيعة المركبة تفرز مجموعة من التناقضات البنيوية للمجتمع، والتي بالرغم من التململ المادي وبعض مظاهر التحديث الذي تعرفه نسبيا البنيات الاجتماعية بسبب تأثيرات العولمة و انتشار ثقافة الاستهلاك، ماتزال دينامية بنياته عاجزة تماما عن إنتاج مجموعة من التحولات السوسيوسياسية التي قد تحرر المجتمع ومعه الفرد من قيم تقليدية لم يساهم تبنيها في الحملات الانتخابية إلا في إظهار هذا الطابع التقليدي والتقليداني للعمل السياسي في المغرب.
الحديث عن الديمقراطية الانتخابية يأخذ منحى مختلفا عندما يتعلق الأمر بالحالة المغربية التي لا زال بناؤها السياسي و المؤسساتي يخضع في اشتغاله لمنطق سلطوي يحد من فعالية هذه الديمقراطية
تُظهر لنا العملية الانتخابية عمق أزمة الحقل السياسي المغربي وكذلك الأزمة القيمية للمجتمع الذي مازالت شرائح واسعة منه غير مستوعبة لحجم الرهانات المرتبطة بالمشاركة السياسية. فلا يمكن بناء ديمقراطية داخل بنية سياسية تقاوم التغيير خوفا من الالتزامات المتولدة منه. فالسياسة ومعها الانتخاب ليسا سوى آليات لترجمة مشروع اجتماعي وسياسي يعكس إرادة المجتمع للخروج من دائرة التخلف و الركود. فلا يمكن الحسم مع مسألة التحديث و الدمقرطة إلا عبر وجود قوى سياسية و مجتمع مدني يؤمن بهما. فبناء الديمقراطية يبقى صعب المنال في غياب فاعلين يؤمنون بها فعلا.
والمثير للإستغراب هو ضعف هذه القوى السياسية بالمغرب حيث الأساليب المعتمدة في التواصل الانتخابي ترتكز بشكل واسع على مجموعة من الوعود السياسية الكلاسيكية المتعلقة بأمور التدبير، و لعل هذا الأمر هو ما أضعف القوة الاقتراحية لجل الأحزاب التي أصبحت لا تتوفر على الشجاعة السياسية لطرح القضايا الشائكة المرتبطة بضرورة إصلاح الوضع الحقوقي وإعادة النظر في طرق تنزيل الدستور، لكي تضمن توزيعا أفقيا للسلطات تتحدد معه مواقع المسؤولية .فالوضعية الراهنة للحقل السياسي المغربي تبعث على التساؤلات التي تجعلنا نبحث عن أسباب الركود عبر نقد مزدوج للفاعل السياسي و المجتمع. و هذا ما يشكل منطلقا لفهم أسباب المفارقات السياسية والاجتماعية التي تلقي بثقلها على طرق المشاركة السياسية. كما أنه من غير الوارد تماما قراءة المشهد السياسي عن طريق الأحزاب اليوم و التي أصبح القسم الأكبر منها فارغ المحتوى عبر تواجد انتخابي فقير وموسمي .إن هذا يساهم في فقدان الممارسة السياسية لمعناها في وقت يتطلع فيه أفراد المجتمع الى وجود مؤسسات تؤطر تصوراتهم وتترجم رغبتهم في التغيير.
إن أداء الأحزاب خلال الحملة الانتخابية كان متواضعا جدا، من ناحية الحمولة المعنوية للسياسة، وهو يعكس في حقيقة الأمر موت السياسة بالمغرب والأزمة التي تتخبط فيها هذه الأحزاب منذ أصبحت مقاولات انتخابية همها الوحيد هو الفوز الانتخابي، والانتخابي فقط، في سباق نحو المهمة التدبيرية الضيقة والامتيازات الجانبية. إذا تمعنا جيدا في البرامج المقترحة سنجد قلة قليلة، من الأحزاب تتضمن برامجها إشارات صريحة لقضايا حقوق الانسان، وضرورة تفعيل الدستور بما يضمن الحد الأدنى من التوزيع الأفقي للسلطات، لكن هذه الأحزاب من غير المتوقع لها الفوز أو حتى المنافسة وحول هذا الأمر يُطرح سؤال كبير عن السبب؟
لقد نتج عن الممارسة السياسية المنبثقة من تجربة التناوب المغربي الانتقال من الأحزاب الإيديولوجية التي تتبنى أدبيات نظرية عريقة الى مجرد مقاولات انتخابية تتهافت على المقاعد
الجواب عن هذا السؤال يتطلب البحث عن أسباب عدم قدرة مثلا أحزاب يسارية مثل فيدرالية اليسار أو الحزب الاشتراكي الموحد الحصول على المراتب الأولى بالرغم من توفر برامجها الانتخابية على مطالب سياسية جد متقدمة مثل احترام حقوق الإنسان و تصحيح اختلالات الوضع الحقوقي بالمغرب ناهيك عن مطلب الملكية البرلمانية، هذا الأمر تتولد عنه مجموعة من الفرضيات التي تقر بمحدودية الوعي السياسي للناخبين و تجذر الفكر المحافظ داخل المجتمع و الذي يفضل أحزاب ذات مرجعية محافظة و لا يتجاوز سقف برنامجها الانتخابي مطالب تدبيرية عادية. إن تراجع القوة المطلبية لجل الأحزاب السياسية المغربية يرجع إلى تشبتها بمنطق المشاركة في الحكومة و لو كان ذلك على حساب الأسس الإيديولوجية لخطابها السياسي، فلقد ساهمت ثقافة التراضي السياسي التي تم الاعتماد عليها منذ نهاية التسعينات كمبرر لهذه المشاركة من طرف أحزاب الكتلة الديمقراطية و على رأسهم الاتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية في الموت السياسي و الإيديولوجي لهذه الأحزاب و تدعيم سلطات الدولة العميقة التي زادت مراقبتها للحقل السياسي من إغلاقه بسبب اتساع حجم الخطوط الحمراء التي لا يمكن تجاوزها.
فمنذ قبول حزب الاتحاد الاشتراكي التفريط في المنهجية الديمقراطية سنة 2002، عبر استبدال الزعامة السياسية بالتكنوقراط المعيّن، وبعد السنوات العشر من تسيير حزب العدالة والتنمية، سقطت الأحزاب في فخ البراغماتية وانغمست في ممارسات تتناقض بشكل واسع مع خطها الإيديولوجي، لاسيما بالنسبة لحزب العدالة والتنمية الذي تميزت فترة تدبيره للشأن العام بتردي الفعل السياسي، عبر اتخاذه أولا لمجموعة من القرارات التي لا تمت بصلة للعدالة والتنمية كشعارين وظفها الحزب طويلا، وثانيا من خلال تفريطه هو الآخر في المنهجية الديموقراطية وعدم دفاعه عنها.و النتائج التي حصل عليها هذا الحزب تعكس بشكل أو بآخر فشله في التدبير إبان فترات توليه قيادة الحكومة، حيث فضل الحزب التضحية بمبادئه الإيديولوجية و الإرتماء في حضن التوافقات السياسية التي أظهرت ضعفه في تدبير إكراهات العمل و الائتلاف الحكوميين و بالأخص خلال فترة سعد الدين العثماني.
لقد نتج عن الممارسة السياسية المنبثقة من تجربة التناوب المغربي الانتقال من الأحزاب الإيديولوجية التي تتبنى أدبيات نظرية عريقة الى مجرد مقاولات انتخابية تتهافت على المقاعد، وهو ما أفرغ المنافسة الانتخابية من أي محتوى ديموقراطي..في ظل هذا الواقع، يطرح سؤال كبير يدور حول الفرصة الضائعة، وعدم قدرة حزب العدالة والتنمية خلال عقد من الزمن استثمار الامتيازات التي يمنحها الدستور الجديد لمؤسسة رئيس الحكومة، الشيء الذي كان من شأنه أن يساهم في التحول المؤسساتي الحقيقي وتفعيل بنية ملائمة للممارسة الديموقراطية، فمن يتحمل المسؤولية إذن؟ الأكيد أن النظام السياسي ومعه الأحزاب و أيضا المجتمع من زواياه الثقافية والقيمية ليس بعيدا عن دائرة المساءلة.
في الختام، الطريق إلى الديمقراطية يشترط إصلاحا ثقافيا يغير ذهنية الأفراد و يساهم في الرقي بالمجتمع إلى مستوى يدرك معه الفرد بأنه أول ضحية للتخلف السوسيوسياسي، لاسيما حين يساند مقاولي الريع الانتخابي و السياسي، ومجمل القول، إن الديمقراطية و الإصلاح يفترضان وجود من يقتنع بضرورتهما أصلا من أجل تحقيقهما على أرض الواقع.