خلافا لما يرفضه كثيرون ويحاولون إنكاره، إن الثورة الشعبية في لبنان ثورة حقيقية. هذا يعود إلى أنّها مستمرّة منذ السابع عشر من تشرين الأوّل – أكتوبر الماضي، أي منذ نحو ستة أسابيع تقريبا. ليست ستة أسابيع شيئا في تاريخ الثورات والشعوب، لكن الملفت في ما يشهده لبنان هو اتساع رقعة الاحتجاجات لتشمل كلّ المناطق، بما في ذلك مناطق سيطرة “حزب الله”، فضلا عن أنّ هذه الثورة اخترقت الطوائف والمذاهب. وهذا جديد إلى حد كبير، خصوصا أنّه أظهر وعيا مسيحيا من جهة ووجود قسم كبير من شيعة لبنان في خندق آخر غير خندق حزب ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني.
مثل هذا الاختراق جعل عناصر “حزب الله” تقدم في بيروت قبل أيّام قليلة على ترديد هتاف “شيعة، شيعة” وذلك في وقت كانت هذه العناصر ترشق قوى الأمن والجيش بالحجار. حصل ذلك عند نقطة حساسة هي جسر فؤاد شهاب (الرينغ) الذي يربط بين مناطق عدة في بيروت وله دلالاته الرمزية. هذا الجسر هو جسر بين المسيحيين والمسلمين في العاصمة اللبنانية وكان هناك دائما تركيز على قطعه في الأيّام السود التي مرّ فيها لبنان منذ العام 1975.
الأكيد أن قطع الطرقات ليس مفيدا في أحيان كثيرة، وهو يلعب ضدّ الثورة والثوّار في معظم الأحيان، لكن الأكيد أيضا أن لثورة السنة 2019 نقاط قوّة كثيرة لا تقتصر على أنّها مستمرّة. لعلّ نقطة القوّة الأهم لهذه الثورة بدء تحديدها لمطالب واضحة بدءا بتشكيل حكومة من خارج الطقم السياسي تخلف حكومة سعد الحريري المستقيلة.
لم يعد سرّا أن سعد الحريري يرفض العودة إلى موقع رئيس الوزراء في غياب توافر شروط معيّنة. في مقدّم هذه الشروط أن يكون الوزراء من الاختصاصيين الذين يعرفون المشاكل التي يعاني منها لبنان مثل الكهرباء والمياه والنفايات والبنية التحتية وكلّ ما له علاقة بالفساد والمحاصصة. لا يستطيع سعد الحريري تكرار تجربة الحكومة السابقة التي وصفت من دون وجه حقّ بأنّها “حكومة وحدة وطنيّة”. كانت هذه الحكومة نسخة عن مجلس للنواب انتخب بموجب قانون عجيب غريب وضعه “حزب الله” وذلك بهدف واحد هو تعطيل الحياة السياسية في البلد. هذا ما حصل بالفعل بمجرد تشكيل حكومة تعكس صورة مجلس النواب الذي يفترض أن تكون فيه موالاة ومعارضة. صار مجلس النوّاب مجموعة من النواب الموالين المنضبطين الممثلين في الحكومة الثلاثينية الفضفاضة… مع استثناءات قليلة طبعا.
ما اكتشفه اللبنانيون بعد مرور ثلاث سنوات على عهد الرئيس ميشال عون أن هذا العهد على ارتباط عضوي مع “حزب الله”. يشبه هذا الارتباط ارتباط بشّار الأسد بالإيرانيين. لا يستطيع هذا العهد إيجاد أي حلّ لأي مشكلة، لا لشيء سوى لأن وزراء “التيّار الوطني الحر” لا يعرفون شيئا عن الملفات التي يتوجب عليهم معالجتها. أكثر من ذلك، عليهم أن يكونوا في تصرّف “حزب الله”. هذا ما ظهر جليّا عندما ذهب وزير الخارجية جبران باسيل إلى مجلس جامعة الدول العربية ليتحدّث عن ضرورة عودة سوريا، أي النظام السوري المسؤول عن مقتل ما يزيد على نصف مليون مواطن وتهجير نحو عشرة ملايين، إلى “الحضن العربي”. اتبع ذلك بخطاب ألقاه بمناسبة ذكرى 13 تشرين الأوّل – أكتوبر 1990، أي ذكرى إخراج الجيش السوري، جيش النظام، ميشال عون من قصر بعبدا وسيطرته على القصر الرئاسي ووزارة الدفاع اللبنانية في اليرزة. أعلن في ذلك الخطاب وفي توقيت محدّد نيته الذهاب إلى دمشق لمقابلة بشّار الأسد. هل من فضيحة تفوق تلك الفضيحة التي لم يعد ممكنا تسويقها عند المسيحيين، باستثناء أولئك السذج من أشباه الأمّيين الذين لم يقرأوا التاريخ يوما ولم يتساءلوا كيف خرج الجيش السوري من لبنان ولماذا خرج وعلى دمّ من خرج في نيسان – أبريل 2005؟
من الصعب على المنتمي إلى “التيّار الوطني الحر” فهم ما يجري في لبنان، لكنّ الملفت أن الغشاوة زالت عن عيون مسيحيين كثيرين باتوا يعرفون جيّدا أن العهد القائم حاليا هو “عهد حزب الله”. من هذا المنطلق، لم يكن مستغربا أن ينزل أفراد من “حزب الله”، المدافع عن عهده، إلى الشارع وأن يهاجم هؤلاء الثوار الذين كانوا يغلقون ما يسمّى بـ”الرينغ” وأن يتسللوا إلى أحياء في المنطقة فيحطمون متاجر ويأخذون منها أشياء ويحطمون سيارات لمجرّد أنّها متوقفة في شوارع معيّنة.
ما ترفضه ثورة لبنان هو مثل هذه التصرفات التي يرحّب بها “التيّار الوطني الحر” للأسف الشديد. لا يقتصر الرفض لمثل هذه التصرّفات على أبناء طوائف معيّنة بل يشمل آلاف الشيعة الذين يشاركون في الثورة. أسماء هؤلاء معروفة. إنّهم مواطنون لبنانيون أوّلا وقبل أيّ شيء آخر. هذا ما يخيف “حزب الله” الذي ليس لديه ما يقدّمه أو يتحدّث عنه سوى “المقاومة”. هناك خوف ما ظهر من خلال الشراسة التي أظهرها “حزب الله” في تعاطيه مع الثورة اللبنانية.
نعترف جميعا أن الحزب قاوم إسرائيل وكان له دوره في تحرير الأرض وتنفيذ القرار 425 في أيّار – مايو 2000. هذا كان قبل عشرين عاما تقريبا. ولكن ماذا فعل الحزب منذ ذلك التاريخ؟ ما هي الخدمات التي قدّمها للبنان واللبنانيين؟ هل تكمن الخدمة في اتهامه من المحكمة الدولية بتنفيذ عملية اغتيال رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط – فبراير 2005 ثمّ ملء الفراغ الذي خلّفه الانسحاب العسكري والأمني السوري بعد ستة أسابيع من اغتيال رفيق الحريري ورفاقه؟ هل الخدمة في افتعال حرب صيف 2006 ثم الاعتصام في وسط بيروت طويلا لاستكمال عملية القضاء على الاقتصاد اللبناني عن طريق تهجير أكبر عدد من الشباب المتعلّم والواعد من البلد؟
هذا غيض من فيض الخدمات التي قدّمها الحزب إلى لبنان وصولا إلى بلوغ مرحلة صار يسمّي فيها رئيس الجمهورية ويشكّل الحكومة ويفرض القانون الانتخابي الذي يريده، كي يدّعي قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” أن لإيران أكثرية في مجلس النواب اللبناني.
في أساس الخلل الحاصل حاليا والذي بدأ مسيحيون وشيعة يدركونه عجز “التيار الوطني الحر” عن أن يكون شيئا آخر غير تابع لـ”حزب الله”. إن مثل هذا الإدراك يجعل الثورة الشعبية في لبنان ثورة نقيّة تعرف من أين تبدأ الخطوة الأولى نحو الإصلاح. الخطوة الأولى تكون بتشكيل وزارة من الخبراء والاختصاصيين النظيفي الكفّ الذين همّهم لبنان وليس حماية مصالح إيران حيث النظام في خصام مع شعبه…
المصدر: جريدة العرب.